فصل: سورة القمر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ومن رواية عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة. وأخرجاه كذلك من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة، عن ابن مسعود. وقال البخاري: قال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة. قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم من السفار، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال: فجاء السفار فقالوا ذلك.. وروى البيهقي من طريق أخرى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود، بما يقرب من هذا.
فهذه روايات متواترة من طرق شتى عن وقوع هذا الحادث، وتحديد مكانه في مكة- باستثناء رواية لم نذكرها عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه كان في منى- وتحديد زمانه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة. وتحديد هيئته- في معظم الروايات أنه انشق فلقتين، وفي رواية واحدة أنه كسف (أي خسف).. فالحادث ثابت من هذه الروايات المتواترة المحددة للمكان والزمان والهيئة.
وهو حادث واجه به القرآن المشركين في حينه؛ ولم يرو عنهم تكذيب لوقوعه؛ فلابد أن يكون قد وقع فعلاً بصورة يتعذر معها التكذيب، ولو على سبيل المراء الذي كانوا يمارونه في الآيات، لو وجدوا منفذاً للتكذيب. وكل ما روي عنهم أنهم قالوا: سحرنا! ولكنهم هم أنفسهم اختبروا الأمر، فعرفوا أنه ليس بسحر؛ فلئن كان قد سحرهم فإنه لا يسحر المسافرين خارج مكة الذين رأوا الحادث وشهدوا به حين سئلوا عنه.
بقيت لنا كلمة في الرواية التي تقول: إن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية. فانشق القمر. فإن هذه الرواية تصطدم مع مفهوم نص قرآني مدلوله أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل بخوارق من نوع الخوارق التي جاءت مع الرسل قبله، لسبب معين: {وما منعنآ أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} فمفهوم هذه الآية أن حكمة الله اقتضت منع الآيات- أي الخوارق- لما كان من تكذيب الأولين بها.
وفي كل مناسبة طلب المشركون آية من الرسول صلى الله عليه وسلم كان الرد يفيد أن هذا الأمر خارج عن حدود وظيفته، وأنه ليس إلا بشراً رسولاً. وكان يردهم إلى القرآن يتحداهم به بوصفه معجزة هذا الدين الوحيدة: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً} فالقول بأن انشقاق القمر كان استجابة لطلب المشركين آية- أي خارقة- يبدو بعيداً عن مفهوم النصوص القرآنية؛ وعن اتجاه هذه الرسالة الأخيرة إلى مخاطبة القلب البشري بالقرآن وحده، وما فيه من إعجاز ظاهر؛ ثم توجيه هذا القلب- عن طريق القرآن- إلى آيات الله القائمة في الأنفس والآفاق، وفي أحداث التاريخ سواء.. فأما ما وقع فعلاً للرسول صلى الله عليه وسلم من خوارق شهدت بها روايات صحيحة فكان إكراماً من الله لعبده، لا دليلاً لإثبات رسالته..
ومن ثم نثبت الحادث- حادث انشقاق القمر- بالنص القرآني وبالروايات المتواترة التي تحدد مكان الحادث وزمانه وهيئته. ونتوقف في تعليله الذي ذكرته بعض الروايات. ونكتفي بإشارة القرآن إليه مع الإشارة إلى اقتراب الساعة. باعتبار هذه الإشارة لمسة للقلب البشري ليستيقظ ويستجيب..
وانشقاق القمر إذن كان آية كونية يوجه القرآن القلوب والأنظار إليها، كما يوجهها دائماً إلى الآيات الكونية الأخرى؛ ويعجب من أمرهم وموقفهم إزاءها، كما يعجب من مواقفهم تجاه آيات الله الكونية الأخرى.
إن الخوارق الحسية قد تدهش القلب البشري في طفولته، قبل أن يتهيأ لإدراك الآيات الكونية القائمة الدائمة، والتأثر بإيقاعها الثابت الهادئ. وكل الخوارق التي ظهرت على أيدي الرسل- صلوات الله عليهم- قبل أن تبلغ البشرية الرشد والنضوج يوجد في الكون ما هو أكبر منها وأضخم، وإن كان لا يستثير الحس البدائي كما تستثيره تلك الخوارق!
ولنفرض أن انشقاق القمر جاء آية خارقة.. فإن القمر في ذاته آية أكبر! هذا الكوكب بحجمه، ووضعه، وشكله، وطبيعته، ومنازله، ودورته، وآثاره في حياة الأرض، وقيامه هكذا في الفضاء بغير عمد. هذه هي الآية الكبرى القائمة الدائمة حيال الأبصار وحيال القلوب، توقع إيقاعها وتلقي ظلالها، وتقوم أمام الحس شاهداً على القدرة المبدعة التي يصعب إنكارها إلا عناداً أو مراء!
وقد جاء القرآن ليقف بالقلب البشري في مواجهة الكون كله؛ وما فيه من آيات الله القائمة الثابتة؛ ويصله بهذا الكون وآيات الله فيه في كل لحظة؛ لا مرة عارضة في زمان محدود، يشهدها جيل من الناس في مكان محدود.
إن الكون كله هو مجال النظر والتأمل في آيات الله التي لا تنفد، ولا تذهب، ولا تغيب. وهو بجملته آية. وكل صغيرة فيه وكبيرة آية. والقلب البشري مدعو في كل لحظة لمشاهدة الخوارق القائمة الدائمة، والاستماع إلى شهادتها الفاصلة الحاسمة؛ والاستمتاع كذلك بعجائب الإبداع الممتعة، التي يلتقي فيها الجمال بالكمال، والتي تستجيش انفعال الدهش والحيرة مع وجدان الإيمان والاقتناع الهادئ العميق.
وفي مطلع هذه السورة تجيء تلك الإشارة إلى اقتراب الساعة وانشقاق القمر إيقاعاً يهز القلب البشري هزاً. وهو يتوقع الساعة التي اقتربت، ويتأمل الآية التي وقعت، ويتصور أحداث الساعة في ظل هذا الحدث الكوني الذي رآه المخاطبون بهذا الإيقاع المثير.
وفي موضوع اقتراب الساعة روى الإمام أحمد. قال: حدثنا حسين، حدثنا محمد بن مطوف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى.
ومع اقتراب الموعد المرهوب، ووقع الحادث الكوني المثير، وقيام الآيات التي يرونها في صور شتى.. فإن تلك القلوب كانت تلج في العناد، وتصر على الضلال، ولا تتأثر بالوعيد كما لا تتأثر بإيقاع الآيات الكثيرة الكافية للعظة والكف عن التكذيب:
{وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر ولقد جآءهم من الأنبآء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر}.
ولقد أعرضوا وقالوا: سحرنا، وهم يرون آية الله في انشقاق القمر. وكان هذا رأيهم مع آية القرآن. فقالوا: سحر يؤثر. فهذا قولهم كلما رأوا آية. ولما كانت الآيات متوالية متواصلة، فقد قالوا: إنه سحر مستمر لا ينقطع، معرضين عن تدبر طبيعة الآيات وحقيقتها، معرضين كذلك عن دلالتها وشهادتها. وكذبوا بالآيات وبشهادتها. كذبوا اتباعاً لأهوائهم لا استناداً إلى حجة، ولا ارتكاناً إلى دليل، ولا تدبراً للحق الثابت المستقر في كل ما حولهم في هذا الوجود..
{وكل أمر مستقر}.. فكل شيء في موضعه في هذا الوجود الكبير. وكل أمر في مكانه الثابت الذي لا يتزعزع ولا يضطرب. فأمر هذا الكون يقوم على الثبات والاستقرار، لا على الهوى المتقلب، والمزاج المتغير؛ أو المصادفة العابرة والارتجال العارض.. كل شيء في موضعه وفي زمانه، وكل أمر في مكانه وفي إبانه. والاستقرار يحكم كل شيء من حولهم، ويتجلى في كل شيء: في دورة الأفلاك، وفي سنن الحياة. وفي أطوار النبات والحيوان. وفي الظواهر الثابتة للأشياء والمواد.
لا بل في انتظام وظائف أجسامهم وأعضائهم التي لا سلطان لهم عليها. والتي لا تخضع للأهواء! وبينما هذا الاستقرار يحيط بهم ويسيطر على كل شيء من حولهم، ويتجلى في كل أمر من بين أيديهم ومن خلفهم.. إذ هم وحدهم مضطربون تتجاذبهم الأهواء! {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر}.. أنباء الآيات الكونية التي صرّفها الله لهم في هذا القرآن؛ وأنباء المكذبين قبلهم ومصارعهم، وأنباء الآخرة التي صورها القرآن لهم.. وكان في هذا كله زاجر ورادع لمن يزدجر ويرتدع. وكان فيه من حكمة الله ما يبلغ القلوب ويوجهها إلى تدبيره الحكيم. ولكن القلوب المطموسة لا تتفتح لرؤية الآيات، والانتفاع بالأنباء، واليقظة على صوت النذير بعد النذير: {حكمة بالغة فما تغني النذر}. إنما هو الإيمان هبة الله للقلب المتهيئ للإيمان، المستحق لهذا الإنعام!
وعند هذا الحد من تصوير إعراضهم وإصرارهم، وعدم انتفاعهم بالأنباء، وقلة جدوى النذر مع هؤلاء. يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- للإعراض عنهم وتركهم يلاقون اليوم الذي لا يحفلون النذير باقترابه، وهم يرون انشقاق القمر بين يدي مجيئه:
{فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شيء نكر خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر}..
وهو مشهد من مشاهد ذلك اليوم، يناسب هوله وشدته ظلال السورة كلها، ويتناسق مع الإرهاص باقتراب الساعة، ومع الإنباء بانشقاق القمر، ومع الإيقاع الموسيقي في السورة كذلك!
وهو متقارب سريع. وهو مع سرعته شاخص متحرك، مكتمل السمات والحركات: هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة كأنهم جراد منتشر (ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور المنظر المعروض) وهذه الجموع خاشعة أبصارها من الذل والهول، وهي تسرع في سيرها نحو الداعي، الذي يدعوها لأمر غريب نكير شديد لا تعرفه ولا تطمئن إليه.. وفي أثناء هذا التجمع والخشوع والإسراع يقول الكافرون: {هذا يوم عسر}.. وهي قولة المكروب المجهود، الذي يخرج ليواجه الأمر الصعيب الرعيب!.
فهذا هو اليوم الذي اقترب، وهم عنه معرضون، وبه يكذبون. فتول عنهم يوم يجيء، ودعهم لمصيرهم فيه وهو هذا المصير الرعيب المخيف!
وبعد هذا الإيقاع العنيف في مطلع السورة؛ والمشهد المكروب الذي يشمل المكذبين في يوم القيامة.. يأخذ في عرض مشاهد التنكيل والتعذيب الذي أصاب بالفعل أجيال المكذبين قبلهم، وعرض مصارع الأمم التي سلكت من قبل مسلكهم، بادئاً بقوم نوح:
{كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أَني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.
{كذبت قبلهم قوم نوح}.. بالرسالة وبالآيات {فكذبوا عبدنا}.. نوحاً {وقالوا مجنون}.. كما قالت: قريش ظالمة عن محمد صلى الله عليه وسلم وهددوه بالرجم، وآذوه بالسخرية، وطالبوه أن يكف عنهم ونهروه بعنف: {وازدجر}.. بدلاً من أن ينزجروا هم ويرعووا!
عندئذ عاد نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ. عاد لينهي إليه ما انتهى إليه أمره مع قومه، وما انتهى إليه جهده وعمله، وما انتهت إليه طاقته ووسعه. ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول:
{فدعا ربه أني مغلوب فانتصر}..
انتهت طاقتي. انتهى جهدي. انتهت قوتي. وغلبت على أمري. {أني مغلوب فانتصر}.. انتصر أنت يا ربي. انتصر لدعوتك. انتصر لحقك. انتصر لمنهجك. انتصر أنت فالأمر أمرك، والدعوة دعوتك. وقد انتهى دوري!
وما تكاد هذه الكلمة تقال؛ وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة.. فتدور دورتها المدوية المجلجلة:
{ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر}..
وهي حركة كونية ضخمة غامرة تصورها ألفاظ وعبارات مختارة. تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة: {ففتحنا} فيحس القارئ يد الجبار تفتح {أبواب السماء}.. بهذا اللفظ وهذا الجمع. {بماء منهمر}.. غزير متوال. وبالقوة ذاتها وبالحركة نفسها: {وفجرنا الأرض عيوناً}.. وهو تعبير يرسم مشهد التفجر وكأنه ينبثق من الأرض كلها، وكأنما الأرض كلها قد استحالت عيوناً.
والتقى الماء المنهمر من السماء بالماء المتفجر من الأرض.. {على أمر قد قدر}.. التقيا على أمر مقدر، فهما على اتفاق لتنفيذ هذا الأمر المقدر. طائعان للأمر، محققان للقدر.
حتى إذا صار طوفاناً يطم ويعم، ويغمر وجه الأرض، ويطوي الدنس الذي يغشى هذا الوجه. وقد يئس الرسول من تطهيره، وغلب على أمره في علاجه. امتدت اليد القوية الرحيمة إلى الرسول الذي دعا دعوته، فتحرك لها الكون كله. امتدت له هذه اليد بالنجاة وبالتكريم:
{وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر}..
وظاهر من العبارة تفخيم السفينة وتعظيم أمرها. فهي ذات ألواح ودسر. توصف ولا تذكر لفخامتها وقيمتها. وهي تجري في رعاية الله بملاحظة أعينه. {جزاء لمن كان كفر}. وجحد وازدجر. وهو جزاء يمسح بالرعاية على الجفاء، وبالتكريم على الاستهزاء. ويصور مدى القوة التي يملك رصيدها من يُغلب في سبيل الله. ومن يبذل طاقته، ثم يعود إليه يسلم له أمره وأمر الدعوة ويدع له أن ينتصر!.. إن قوى الكون الهائلة كلها في خدمته وفي نصرته. والله من ورائها بجبروته وقدرته.
وعلى مشهد الانتصار الهائل الكامل؛ والمحق الحاسم الشامل، يتوجه إلى القلوب التي شهدت المشهد كأنها تراه.
يتوجه إليها بلمسة التعقيب، لعلها تتأثر وتستجيب:
{ولقد تركناها آية فهل من مدكر}..
هذه الواقعة بملابساتها المعروفة. تركناها آية للأجيال {فهل من مدكر} يتذكر ويعتبر؟
ثم سؤال لإيقاظ القلوب إلى هول العذاب وصدق النذير: